التخطي إلى المحتوى الرئيسي

زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم


زهد رسول الله

تُعَدُّ حياة رسول الله  من أنصع الأدِلَّة على نُبُوَّتِه؛ لما تَتَّصف به من نقاء ووضوح، ولا يكون ذلك إلاَّ لنبي مُرْسَل من ربِّه، لا يُمَثِّلُ نفسه، وإنما يُمَثِّل الإرادة العليا؛ مصداقًا لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3-5]. فانظروا إلى الرسول العابد الذي لا يفتر عن ذكر ربِّه في ليله ونهاره، والأمي الذي علَّمه شديد القوى، والحريص على أُمَّته من عذاب رب العالمين، والزاهد في الدنيا رغم أنها أتته راغبة، وانظروا أيضًا إلى عصمة الله له وإلى نقاء حياته؛ ستدركون عندها أن محمدًا  رسول من رب العالمين؛ فهذه الحياةُ النقية لا يمكن أن يكون صاحبها دَعِيًّا، ولا يمكن أن يكون دجالاً، كما لا يمكن أن يكون طالب مُلْكٍ، ولا يمكن أن يكون رجل دُنْيَا.
وفي المقالات التالية نُقَدِّمُ بعضًا من جوانب حياته، والتي تَدُلُّ دلالةً واضحةً على صِدْقِ نُبُوَّة رسول اللهِ  .
زهد رسول الله نظيره الإسلام للحياة الدنيا
إن نظرة الإسلام للحياة الدنيا نظرة فريدة؛ لأنها تخلق إنسانًا متوازنًا يُدرك أن الحياة الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، وأن الآخرة هي خير وأبقى؛ لذلك قال تعالى عن الدنيا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. كما وضع القرآن الكريم المعيار الحقيقي أمام الإنسان عند تطلُّعه للدنيا: {وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64].
فالدنيا في المنظور الإسلامي ما هي إلاَّ مزرعة الآخرة، وهي كذلك مجرَّد طريق يعبر عليه الإنسان لوِجْهَته الحقيقيَّة، وهو ما قاله رسول الله : "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"[1].
وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُويُعَلِّم رسول الله  أُمَّته حقيقة العَلاقة بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة أكرم وأفضل عند الله، فيقول رسول الله : "وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى[2]بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ"[3].
صور من زهد رسول الله
ومن عظمة رسول الله  أن حياته كانت نموذجًا عمليًّا لهذه النظرة الربَّانيَّة للدنيا، وهذه صور ونماذج من زهد رسول الله ، فقد وصف عمر بن الخطاب  بيت وحال رسول الله بقوله:... فدخلت عليه فإذا هو مضطجع على رُمَال حصير[4]، ليس بينه وبينه فراش، قد أَثَّرَ الرمالُ بجنبه، مُتَّكِئًا على وسادة من أَدَم حشوها ليف... ثم رفعتُ بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يَرُدُّ البصر غير أَهَبَة[5] ثلاثة، فقلتُ: ادعُ الله فليوسِّع على أُمَّتِك؛ فإن فارس والروم وُسِّعَ عليهم، وأُعْطُوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله. وكان متَّكِئًا، فقال: "أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"[6].
ولقد أشفق أصحاب رسول الله –رضي الله عنهم- عليه  عندما وجدوا الحصير قد أثَّر في بدنه؛ فعن عبد الله بن مسعود  قال: اضطجع النبي  على حصير، فأثَّر في جلده، فقلتُ: بأبي وأمي يا رسول الله، لو كنتَ آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئًا يقيك منه. فقال رسول الله : "مَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا"[7].
وهذا رسول الله  -وهو القائد العامُّ لجموع المسلمين في الجزيرة العربيَّة، ومع ما فتح الله عليه من الفتوح- مستمسِّكًا بحياة الزهد، مبتعدًا عن الزعامة المتصنَّعة، متواضعًا في مأكله ومشربه، وقد لا يجد هذا المأكل في كثير من الأحيان، فقد خطب النعمان بن بَشِير ، فقال: ذَكَر عُمَرُ  ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ  يَظلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي[8] مَا يَجِدُ دَقَلاً[9] يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ"[10].
وكثيرًا ما كان يلتوي رسول الله من الجوع طيلة حياته!! ومن هذه المواقف ما ذكره أبو هريرة  بقوله: خرج رسول الله  ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: "مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟" قالا: الجوع يا رسول الله. قال: "وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومَا". فقامَا معه: فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمَّا رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلاً. فقال لها رسول الله : "أَيْنَ فُلانٌ؟" قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله  وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا منِّي. قال: فانطلق فجاءهم بعِذْق[11] فيه بُسْر وتمر ورُطب. فقال: كُلُوا من هذه. وأخذ المدية[12]، فقال له رسول الله : "إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ". فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذْق، وشربوا، فلمَّا أن شبعوا وَرَوُوا، قال رسول الله  لأبي بكر وعمر: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ"[13].
لقد كان زهد رسول الله  في حقيقته علامة من علامات نبوَّته، ودليلاً على صدق بعثته، فقد تؤثِّر الدنيا في أحدنا فتغيِّره، فيصبح عندها موضع انتقاد الجميع، ولكن رسول الله  ظلَّ على عهده بالزهد، مصاحبًا له، ومقترنًا به إلى موته، وهو ما تُقرِّره أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بقولها: "مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ  ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ"[14].
ولمَّا جاءته الدنيا بما تشتهي كل نفس زهد فيها غاية الزهد، فها هو ذا يوم حُنين تهون عليه الدنيا كلها ويعطيها دون تردُّدٍ لأصحابه وللمؤلَّفة قلوبهم، فهي عنده لا تعدل جناح بعوضة، حتى إنه لم يُبقِ منها ما يعوِّض فقر السنين وانقضاء العمر الذي تجاوز الستِّين، ثم يقول للأعراب بعد أن أخذ بعضهم رداءَهُ: "رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، أَتَخَافُونَ أَلاَ أَقْسِمَ بَيْنَكُمْ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدَ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلاً..."[15].
نظرة رسول الله للزهد
ورغم زهد رسول الله  للدنيا إلاَّ أن نظرته للزهد كانت نظرة رائعة؛ لأنها علَّمت الأُمَّة أن تَزْهَدَ دون أن تترك إعمار الأرض، فليس عدم التعلُّق بالدنيا داعيًا إلى خرابها، بل يعمرها المسلم دون أن يتمسك بمتاعها؛ لذلك يقول رسول الله : "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ"[16].
هذه هي النظرة الإسلاميَّة للدنيا؛ نظرة توازن لا تُغْفِل الدنيا لحساب الآخرة، ولا الآخرة لحساب الدنيا، وهذه هي عظمة الإسلام، وعظمة نبيِّه  التي تُثْبِتُ -بما لا يدع مجالاً للشكِّ- صدق نبوَّته، وربانية دعوته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصديق أبو بكر

أبو بكر الصديق هو عبد الله بن أبي قحافة، من قبيلة قريش، ولد بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بثلاث   سنيـن ، أمه أم الخير سلمى بنت صخر التيمية بنت عم أبيه ، كان يعمل بالتجارة ومـن   أغنياء مكـة المعروفين ، وكان أنسب قريشاً لقريش وأعلم قريـش بها وبما كان فيها من   خير وشـر وكان ذا خلق ومعروف يأتونه الرجال ويألفونـه اعتنـق الاسلام دون تردد فهو   أول من أسلم من الرجال الأحرار ثم أخذ يدعو لدين اللـه فاستجاب له عدد من قريش من   بينهم عثمـان بن عفـان ، والزبيـر بن العـوام ، وعبدالرحمـن بن عـوف ، والأرقـم   ابن أبي الأرقـم إسلامه لقي أبو بكر -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم   فقال : أحقّ ما تقول قريش يا محمد من تركِكَ آلهتنا وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آباءَنا ؟   فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- : إني رسول الله يا أبا بكر ونبّيه بعثني لأبلغ رسالته ، وأدعوك الى الله بالحق ،   فوالله إنه للحق أدعوك الى الله يا أبا بكر ، وحده لا شريك له ولا نعبد غيره ، والموالاة على طاعته أهل طاعته   وقرأ عليه القرآن فلم ينكر ، فأسلم وكفر با...

تربية الأبناء

تربية الأولاد من الواجبات المطلوبة من الأبوين، أمر الله تعالى بها في القرآن وأمر بها الرسول صلى الله عليه و سلم، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم:6]. يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره:  {يا أيها الذين آمنوا}  أي: يا أيها الذين صدقوا الله  سبحانه- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- {قوا أنفسكم} أي: علموا بعضكم بعضا ما تقون به من تعلمونه النار وتدفعونها عنه إذا عمل به من طاعة الله واعملوا بطاعة الله تعالى. وقوله تعالى: {وأهليكم ناراً} يقول: وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله تعالى ما يقون به أنفسهم من النار. " بتصرف من (تفسير الطبري:28 / 165). وقال القرطبي رحمه الله تعالى : قال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه ، قال إلكيا: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يستغني عنه من الأدب وهو قول الله تعالى: {وأْمُر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} ، ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : {وأنذر...