التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نقاء حياة الرسول

حياة رسول الله قبل البعثة

اتَّصفت حياة رسول الله  قبل البعثة وبعدها بالنقاء التامِّ والأخلاق والشمائل العظيمة التي قَلَّمَا تجتمع في تلك البيئة الجاهليَّة لأحد، فقد اشتهر رسول الله  بالصدق والأمانة؛ الأمر الذي جعل أعداء رسول الله  يستأمنونه على أموالهم وودائعهم رغم عدائهم الشديد له، وعدم إيمانهم بدعوته، ولم تُنْسِ رسول اللهِ  عداوَةُ قومه له خصلةَ الأمانة؛ لذلك فقد استخلف رسول الله  عليَّ بن أبي طالب ليلة الهجرة لردِّ الودائع إلى أصحابها، رغم أن أصحاب هذه الأمانات قد أجمعوا آراءهم على قتله في تلك الليلة.

حفظ الله لرسول الله

ولننظر إلى سيرة رسول الله  العطرة لنُدرك نقاء حياته  وحِفْظ الله له؛ فقد صُنِعَ بحقٍّ على عين الله تبارك وتعالى؛ ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، فقد حفظه الله I فترة شبابه -قبل النبوة- عمَّا كان عليه أهل الجاهليَّة، وعصمه عن مقارعة الآثام أو إتيان الدنايا، فشبَّ رسول الله  -كما يقول ابن إسحاق وغيره- يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهليَّة ومعايبها[1].
ومن جوانب حفظ الله  له وعصمته إيَّاه ما كان يُحَدِّث به رسول الله  من أنه لم تُكشف له عورة وهو غلام، فقال رسول الله : "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي غِلْمَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانِ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى وَأَخَذَ إِزَارَهُ[2]وَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لأُقْبِلُ مَعَهُمْ وَأُدْبِرُ إِذْ لَكَمَنِي لاكِمٌ لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: شِدَّ عَلَيْكَ إِزَارَكَ. قَالَ: فَأَخَذْتُهُ فَشَدَدْتُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَنْقُلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيَّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي"[3].
وقد وقع قريبٌ من هذا عند بناء الكعبة، فروى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حدَّثني أبي العباسُ بن عبد المطلب، قال: لمَّا بَنَتْ قريش الكعبة انفردتْ رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنتُ أنا وابن أخي، فجَعَلْنَا نأخذُ أُزُرَنَا فنضعها على مناكبنا[4]، ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لَبِسْنَا أُزُرَنا، فبينا هو أمامي إذ صُرِعَ[5]، فسَعَيْتُ وهو شاخص ببصره[6] إلى السماء، فقلتُ: يابن أخي، ما شأنك؟ قال: "نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا". قال: فكتمتُه حتى أظهره الله بنبوَّته[7].
وكان مِنْ حِفْظ اللهِ له -أيضًا- أنه لم يركن إلى اللهو ولم يسمع الغناء، يَرْوِي في ذلك عليٌّ  فيقول: سمعتُ رسول الله  يقول: "مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ ممَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَهِمُّونَ بِهِ مِنَ الْغِنَاءِ إِلاَّ لَيْلَتَيْنِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللهُ مِنْهُمَا؛ لَيْلَةٌ لِبَعْضِ فِتْيَانِ مَكَّةَ وَنَحْنُ فِي رِعَايَةِ غَنَمِ أَهْلِنَا، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ. فَقَالَ: بَلَى. فَدَخَلْتُ حَتَّى إِذَا جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ عَزْفًا وَغَرَابِيلَ[8] وَمَزَامِيرَ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: تَزْوِيجُ فُلانٍ فُلانَةَ. فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَاللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ. ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَسْمُرَ بِمَكَّةَ. فَفَعَلَ، فَدَخَلْتُ، فَلَمَّا جِئْتُ مَكَّةَ سَمِعْتُ مِثْلَ الَّذِي سَمِعْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَ اللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: لا شَيْءَ. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَوَ اللهِ مَا هَمَمْتُ وَلا عُدْتُ بَعْدَهُمَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللهُ بِنُبُوَّتِهِ"[9].
كما أن رسول الله  لم يشرب خمرًا قطُّ، ولم يسجد لصنم قطُّ؛ فعن عليٍّ  قال: قيل للنبي : هل عبدتَ وثنًا قطُّ؟ قال: "لا". قالوا: فهل شربتَ خمرًا قطُّ؟ قال: "لا، وَمَا زِلْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ"[10].
وتروي أُمُّ أيمن -رضي الله عنها- حاضنة الرسول  عن عدم سجوده  لصنم قطُّ فتقول: كان بُوَانة صنمًا تحضره قريش يومًا في السنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلِّم رسول الله  أن يحضر ذلك معه فيأبى، حتى رأيتُ أبا طالب غضب عليه، ورأيتُ عمَّاته غضبن عليه، وقُلْنَ: يا محمد، ما تريد أن تحضر لقومك عيدًا، ولا تُكَثِّر لهم جمعًا؟! فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب ما شاء الله، ثم رجع مرعوبًا فَزِعًا، فقالت عمَّاته: ما دهاك؟ قال: "إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي لَمَمٌ". فقلن: ما كان الله يبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيتَ؟ قال: "إِنِّي كُلَّمَا دَنَوْتُ مِنْ صَنَمٍ مِنْهَا تَمَثَّلَ لِي رَجُلٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ يَصِيحُ بِي: وَرَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ، لا تَمَسَّهُ". قالت: فما عاد إلى عيد لهم[11].
وظلَّ على هذه الحال بعد نزول الوحي عليه لا يركن إلى الدنيا، ولا يبحث عن ملذَّاتها، فها هو رسول الله  يقول لزعماء قريش عندما عرضوا عليه الدنيا في مقابل ترك دعوته: "مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولاً، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لأَمْرِ اللهِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ"[12]. فالهدف واضح في ذهن رسول الله ، وثقته كبيرة بنصر الله له رغم التكذيب والعناد الذي يُلاقيه.
صور من نقاء حياة رسول الله
ومن نقاء حياة رسول الله  وكمالها أنه لم يَتَحَيَّن ويستغل الفرص للتعالي على قومه وأتباعه، وهناك شواهدُ كثيرةٌ على ذلك؛ منها موقفه من كسوف الشمس وقت وفاة ابنه إبراهيم؛ فعن المغيرة بن شعبة، أنه قَالَ: كَسَفَتِ الشمس على عهد رسول الله  يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله : "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا، وَادْعُوا اللَّهَ "[13]. مثلُ هذا لا يصدر عن كاذب أو دجال، فلو كان غير رسول الله  مِنْ مُدَّعِي النُّبُوَّة، لانتهز هذه الفرصة، وقال: انظروا الشمس حزنت لحزني وانكسفت. ولكن حاشا لرسول الله  أن يفعل ذلك.
ومن نقاء حياته ووضوحها -أيضًا- حرص رسول الله  على إظهار بشريَّتِهِ ، فما محمد إلاَّ بشر من بني آدم، وُلِد من أبوين، فيأكل الطعام ويَتَزَوَّج النساء، يجوع ويمرض، ويفرح ويحزن، والمدهش حقًّا أن يأتي هذا التأكيد منه  بل ويُصِرُّ عليه. وما أجمل أن نتذَكَّر هنا موقف جرير بن عبد الله  الذي قال: أُتِيَ النبي  برجل ترعد[14]فرائصه[15]، فقال له: "هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ[16] فِي هَذِهِ الْبَطْحَاءِ[17]"! قال: ثم تلا جرير بن عبد الله البجلي: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45][18].
ومن أعظم الأدلَّة على نقاء حياة رسول الله  عتابُ الله I له ، ونزول هذا العتاب في القرآن الكريم؛ ليظل محفوظًا بين الناس على الدوام، وهذا العتاب يكشف لنا كيف كانت حياة النبي  واضحةً غاية الوضوح، حتى عَلِمَ الجميعُ سِرَّه وعلانيته، فهل يَتَأَتَّى ذلك لدعِيٍّ أو كذَّاب! ومن أمثلة هذا العتاب قوله تعالى في حقِّ نَبِيِّنَا : {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 1، 2]، وذلك أن عبد الله بن أم مكتوم أتى النبيَّ  يستهديه، فأعرض النبي  عنه؛ لانشغاله بدعوة سادات قريش، فنزل عتاب الله جَلَّ وعلا لنَبِيِّه ، فكان قرآنًا يُتْلَى إلى يوم القيامة، وقد تكرر هذا العتاب في أكثر من موقف من مواقف حياته .
هكذا كان محمدٌ  واضحًا غاية الوضوح، ونقيًّا غاية النقاء؛ فكانت رسالته خاتمة الرسالات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصديق أبو بكر

أبو بكر الصديق هو عبد الله بن أبي قحافة، من قبيلة قريش، ولد بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بثلاث   سنيـن ، أمه أم الخير سلمى بنت صخر التيمية بنت عم أبيه ، كان يعمل بالتجارة ومـن   أغنياء مكـة المعروفين ، وكان أنسب قريشاً لقريش وأعلم قريـش بها وبما كان فيها من   خير وشـر وكان ذا خلق ومعروف يأتونه الرجال ويألفونـه اعتنـق الاسلام دون تردد فهو   أول من أسلم من الرجال الأحرار ثم أخذ يدعو لدين اللـه فاستجاب له عدد من قريش من   بينهم عثمـان بن عفـان ، والزبيـر بن العـوام ، وعبدالرحمـن بن عـوف ، والأرقـم   ابن أبي الأرقـم إسلامه لقي أبو بكر -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم   فقال : أحقّ ما تقول قريش يا محمد من تركِكَ آلهتنا وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آباءَنا ؟   فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- : إني رسول الله يا أبا بكر ونبّيه بعثني لأبلغ رسالته ، وأدعوك الى الله بالحق ،   فوالله إنه للحق أدعوك الى الله يا أبا بكر ، وحده لا شريك له ولا نعبد غيره ، والموالاة على طاعته أهل طاعته   وقرأ عليه القرآن فلم ينكر ، فأسلم وكفر با...

تربية الأبناء

تربية الأولاد من الواجبات المطلوبة من الأبوين، أمر الله تعالى بها في القرآن وأمر بها الرسول صلى الله عليه و سلم، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم:6]. يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره:  {يا أيها الذين آمنوا}  أي: يا أيها الذين صدقوا الله  سبحانه- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- {قوا أنفسكم} أي: علموا بعضكم بعضا ما تقون به من تعلمونه النار وتدفعونها عنه إذا عمل به من طاعة الله واعملوا بطاعة الله تعالى. وقوله تعالى: {وأهليكم ناراً} يقول: وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله تعالى ما يقون به أنفسهم من النار. " بتصرف من (تفسير الطبري:28 / 165). وقال القرطبي رحمه الله تعالى : قال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه ، قال إلكيا: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يستغني عنه من الأدب وهو قول الله تعالى: {وأْمُر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} ، ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : {وأنذر...